بات لإيران في الشهر المنصرم برلمانٌ جديد ذو أكثرية متشدّدة تمّ انتخابُه في تصويت جرى في فبراير واتّسم بالإقبال الأدنى منذ ثورة العام 1979، لا بل اجتاح المحافظون العاصمة طهران فيما لم يؤمّن المعتدلون الأوفر حظّاً سوى 95393 صوتاً في مدينة ضخمة بعدد سكّان يفوق 13 مليوناً. لماذا خسر المعتدلون والإصلاحيّون في إيران الدعم الشعبي، وما يعني ذلك لسياسة إيران الخارجية؟
يدّعي المنطق السائد أنّ السبب الأساسي لموقع المعتدلين المتراجع هو الضغط الأمريكي على إدارة روحاني، ووصف بعض المحلّلين حملة “الضغط الأقصى” التي ينتهجها ترامب بأنّها هدية للمتشدّدين الإيرانيين. من هذا المنطلق، فقد أعطت إعادة فرض واشنطن العقوبات المتشدّدين في إيران “ما يريدونه” و”عبر تسليم المتشدّدين زمام القيادة في طهران، جعل ترامب الأزمة الراهنة أمراً لا مفرّ منه”. وتعزو هذه الحجة تعزيزَ “سلطة الفصيل الإيراني المتشدّد، في المؤسّستَين الدينية والقضائية وفي صفوف الحرس الثوري” إلى الضغط الأمريكي. وفي السياق ذاته، تصرّ التوقّعات للانتخابات الرئاسية الإيرانية في العام 2021 على أنّ سياسات البيت الأبيض أنشأت “ظروفاً مستحيلة” لفوز مرشّحٍ إصلاحي. لكنّ هذه التفسيرات البسيطة تتجاهل سياسات إيران الداخلية وتضّخم إلى حدّ بعيد من قدرة واشنطن على التحكّم بالنتائج داخل إيران.
عوامل داخليّة تضعضع المعتدلين
لهو من باب التبسيط عزو التضعضع الذي يواجهه المعتدلون في إيران إلى سياسة الضغط التي يتّبعها ترامب. فالوضع سببه عوامل داخليّة مهمّة. أولاً، قبل عشرة أشهر من قرار ترامب بسحب الولايات المتّحدة من الاتفاق النووي (خطّة العمل الشاملة المشتركة)، كان خيار روحاني لأعضاء الحكومة لمدّة حكمه الثانية محافظاً للغاية، على عكس توقّعات مؤيّديه. فلم يلبِّ روحاني مثلاً وعوده بتعيين امرأة في وزارة واحدة على الأقل، ممّا خيّب أملَ قاعدة انتخابيّة مهمّة.
في الواقع، شكّلت الانتفاضة التي اندلعت في مئة مدينة وبلدة تقريباً في مطلع العام 2018 (وتُعرف في إيران باسم احتجاجات دَي)، أي قبل خمسة أشهر من خروج ترامب من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات، نقطةَ تحوّل في آراء الإيرانيين حيال الفصيل المعتدل. فقد بدأت الاحتجاجات بفعل شكاوى اجتماعية اقتصادية، لكنّها تخطّت المطالب الاقتصادية. فدانت أكثرية الإصلاحيين الأشخاص الذين نزلوا إلى الشارع، ممّا صدم الكثيرين. فوصف حامد رضا جالايبور، وهو ناشط إصلاحي معروف، المحتجّين بالـ”كواسر”، لكنّه نكر أنّه استعمل هذا المصطلح بعد ردود فعل كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وألقى عبّاس عبدي، وهو إصلاحي آخر، باللوم لاندلاع الاحتجاجات على “الدول الرجعية في المنطقة”، واصفاً الاحتجاجات بـ”أعمال شغب وتدمير” تتطلّب ردّاً قاسياً. والأهمّ من هذا كلّه أنّ بياناً صدر عن مجمع علماء الدين المجاهدين الذي يرأسه محمد خاتمي، الرئيس الإصلاحي السابق المعروف بأنه قائد المعسكر الإصلاحي، ردّد هذه المواقف بقوله: “تبيّن الأحداث الأخيرة المؤسفة في البلاد أنّ الانتهازيين والمشاغبين يستغلّون التجمّعات الشعبية والاحتجاجات السلمية عبر التسبّب بالفوضى وعدم الأمان وتدمير الممتلكات العامة وإهانة الحُرم الدينية والوطنية وقتل الأبرياء حتّى. وهم يسيرون تبعاً لنوايا الأعداء القذرة”. وتزايدت حدّة هذه الاستنكارات عندما بدأ الشعب يردّد شعار “إصلاحي، متشدّد، انتهت اللعبة الآن”.
وحثّت ردود الفعل هذه الكثير من الإيرانيين على الابتعاد عن المعتدلين. فتبعاً لصادق زيباكلام، أستاذ علوم سياسية معروف في جامعة طهران، “تبدّدت سمعة الإصلاحيين مع احتجاجات دَي”، فحوّلتهم إلى “الفاشلين الأهمّ” في تلك الاحتجاجات. وفي مقابلة أخرى، قال إنه لم يكن للإصلاحيين “استراتيجية محدّدة منذ 22 سنة” وإنّ “الإصلاحات ماتت الآن”. بعبارة أخرى، فيما شدّد المعتدلون مراراً وتكراراً على دعمهم للمجتمع المدني، رأى الكثيرون أنّ ردود فعلهم إزاء احتجاجات دَي مشابهة لردود فعل المتشدّدين. في هذا السياق، يقرّ إبراهيم أصغرزاده، أحد كبار الناشطين الإصلاحيين قائلاً: “أوافق أنّ الإصلاحيين الذين يذوقون طعم السلطة يصبحون محافظين أحياناً، وهذا النهج المحافظ بلاء للنهج الإصلاحي”. في هذا السياق، قال محمد رضا خاتمي، عضو إصلاحي في البرلمان الإيراني السابق (أخ الرئيس السابق خاتمي)، إنّ الإصلاحيين “صمّام الأمان” للجمهورية الإسلامية، مضيفاً أنّ “آمال الشعب بالإصلاحيين تتلاشى يوماً بعد يوم”. وبات كثيرون محبطين بخيارهم في السنوات الأخيرة بالتصويت للمعتدلين “لتحقيق السلام والطمأنينة”.
وكما تُبيِّن احتجاجات دَي وردود فعل الإصلاحيين، للعوامل الداخلية أهمّية أكبر من الضغط الأمريكي في تفسير وهْن المعتدلين. فقد أضرّ أداؤهم الرديء في خلال تسلّمهم الحكم (في خلال إدارتَي خاتمي وروحاني) بشعبيّتهم، لأنّهم لم يفوا بوعود سياسية واقتصادية أساسيّة.
دور المعتدلين في سياسة إيران الخارجية
كيف يؤثّر هذا التضعضع في المؤسّسة المعتدلة في سياسة إيران الخارجية، وفي العلاقات مع واشنطن بالتحديد؟ لهو من المُغري الظنّ بأنّ بروز المتشدّدين الإيرانيين سيزيد من حدّة التوتّرات الأمريكية الإيرانية، فـ”تعلو الأصوات المعارضة للاتفاقية في إيران وتتجدّد عزيمة أولئك الذين يفضّلون انتهاج سياسة مواجهة أكثر حِدّة تجاه واشنطن”. بيد أنّ هذا التفكير يفترض أنّ للمعتدلين الإيرانيين اليدُ الطولى في إبرام الاتفاق النووي، وهو إنجاز دبلوماسي هائل أعاد العلاقة من شفير الحرب. وهذه قراءة سطحية للديناميات الداخلية الإيرانية. في الواقع، في الكثير من الحالات تخدُم الاختلافات بين الفصائل في طهران غايةً نفعية في السياسة الخارجية. فكما أقرّ نائب معتدل سابق مؤخراً، تمّ اللجوء إلى اعتراضات المتشدّدين القاسية على سياسة التخفيف من الاحتقان التي انتهجها روحاني لمساعدة طهران على كسب المزيد من التنازلات بموجب الاتفاقية. ولا يجوز النسيان أنّ إيران والولايات المتحدة بدأتا مفاوضات سرّية في عمان في نوفمبر 2011، أي بالضبط عندما سيطر المتشدّدون على سدّة الرئاسة والبرلمان. خلاصة الأمر أنّ سياسة إيران الخارجية لا يحدّدها الرئيس، ولا سيّما في سياق العلاقات الأمريكية الإيرانية. وفي كلام يؤكّد على ذلك، أقرّ علي مرتضى، وهو نائب عريق يصف نفسه على أنّه غير منحاز ولم يُسمح له بالمشاركة في الانتخابات الأخيرة، أنّ “إيران ترزح تحت ضغط هائل” وقال إنّ “المتشدّدين، عبر استلام زمام السلطة، سيوافقون على الأرجح على إقامة علاقات مع الولايات المتّحدة”.
ماذا يعني ذلك لمستقبل العلاقات مع واشنطن؟
بعد أربعة عقود، بيّنت الجمهورية الإسلامية أنّ سياستها الخارجية لا يحدّدها بالإجمال أيّ فصيل سياسي يسيطر على الإدارة أو البرلمان، بل، عوضاً عن ذلك، أدّى كلٌّ من المعتدلين والمتشدّدين دوره، أي دور “الشرطي النزيه والشرطي الفاسد”. مثلاً، التقى الرئيس روحاني، بعد ثلاثة أشهر من انتخابه في يوليو 2017، بكبار الجنرالات من الحرس الثوري الجمهوري. ونَشرَ مستشار الرئيس حسام الدين آشنا صورة للاجتماع على حسابه على موقع “تيليغرام”، وكتب: “هذه ليس مجرّد صورة بل مسار”. وحاول روحاني في فترة حكمه الثانية تعزيز العلاقات مع المحافظين والمتشدّدين. وتبعاً لتابناك، وهو موقع إخباري نافذ على الإنترنت مقرّب من محسن رضائي، وهو جنرال في الحرس الثوري وأمين سرّ مجمع تشخيص مصلحة النظام، بإمكان استعداد روحاني للتقرّب من المحافظين “المحافظة على نفوذه بعد انتهاء رئاسته كشخصية فعّالة في السياسة الإيرانية”.
طبعاً، موقف طهران الرسمي هو أنّها تعتمد استراتيجية لمواجهة ما تراه أنّه نظام عالمي بقيادة الولايات المتّحدة. لكن في حال دعت الحاجة، قد تميل الجمهورية الإسلامية إلى مواقف أكثر تقبّلاً، على غرار تلك التي ساعدت على الوصول إلى المفاوضات النووية. ولم تكن هذه التغيّرات نتيجة النفوذ “الاعتدالي” للمعسكر الإصلاحي في إيران. في الواقع، بسبب مكانتهم الدولية المرموقة لا أكثر، أدّوا دورهم وسْط استراتيجية أمن قومي إيراني تهدف إلى الحدّ من التهديدات عبر المفاوضات.
لقد عوّلت تفسيرات كثيرة لضعف المعتدلين ولدورهم في السياسة الخارجية الإيرانية على “عامل ترامب”، فأهملت الدور المهمّ الذي تؤدّيه الديناميات السياسية الداخلية في الجمهورية الإسلامية. فلا بدّ من أنّ هذه العوامل الداخلية هي القوّة الدافعة وستبقى كذلك.
Commentary
Op-edما الذي يفسّر تراجع المعتدلين في إيران؟ السبب ليس ترامب
الإثنين، 15 يونيو 2020