Commentary

إسرائيل وأفريقيا وليبيا: الأوراق الرابحة في سياسة المغرب الخارجية

Moroccan Foreign Minister Nasser Bourita speaks during a visit by Israeli envoys to Rabat, Morocco, December 22, 2020. Picture taken December 22, 2020. REUTERS/Shereen Talaat

لقد استقطبت السياسة الخارجية المغربية الكثير من الانتباه في الأشهر الأخيرة على ضوء التوتّرات المتزايدة مع الاتّحاد الأوروبي وأحاديث عن مزيد من التقارب مع إسرائيل ومواقف أقوى إزاء انخراط المملكة في عملية السلام الليبية وادّعائها بالسيادة على أراضي الصحراء المتنازَع عليها. ويقول البعض إنّ اعتراف الولايات المتّحدة بسيادة المغرب على هذه الأراضي قد منح صانعي القرارات في المملكة المزيد من الثقة، فيما يصف آخرون التغيّرات الأخيرة في توجّهات الرباط على أنّها “عدائية”. فما الذي تشهده في الواقع السياسة الخارجية للمملكة المغربية؟

مع توتّر علاقات المغرب مع شركائه التقليديين في أوروبا ومع الأنظمة الملكية الخليجية أحياناً على مدى العقد المنصرم، سعى صانعو القرارات فيه إلى ترسيخ موقع المملكة إقليمياً ودولياً من خلال ثلاث استراتيجيات تهدف إلى تعزيز مصالحها الدبلوماسية والسياسية والأمنية والاقتصادية، ألا وهي تنويع الشراكات الدولية لتفادي الاتّكال الزائد على الشركاء التقليديين والخضوع لمطالبهم وجذب الاستثمارات من آسيا وأوروبا عبر تحويل المملكة إلى مركز مالي وتجاري أفريقي ووضع المملكة في موقع يجعلها شريكاً أمنياً إقليمياً ومزوِّداً للاستقرار ووسيطاً عبر الانخراط في عملية السلام الليبية وعبر تطبيع العلاقات جزئياً مع إسرائيل. فما هي تداعيات هذه المقاربة؟

علاقات مضطربة

اتّسم العقد الأول من الألفية الجديدة بتعزيز للعلاقات بين المملكة والممالك في الخليج، التي لطالما كانت شريكة تقليدية للرباط والتي تمنحها دعماً مالياً ومؤازرة في المنتديات الإقليمية مقابل تعاون في المجال الأمني. بيد أنّه بين العامَين 2017 و2021، تسبّبت علاقات المغرب الوطيدة بقطر وموقفها المحايد في خلال الحصار الذي قادته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة على قطر بتوتّرات بين الرباط من جهة والرياض وأبوظبي من جهة أخرى. ومع أنّ المغرب رفض رسمياً الانحياز إلى أيّ جهة، يمكن القول إنّه فضّل قطر وأرسل إليها مؤناً وسْط مخاوف من النقص في الغذاء وحافظ على العلاقات الأمنية والتجارية معها على الرغم من الضغوط من الدول المحاصِرة التي اعتمدت خطاباً معادياً حيال المغرب وألغت رحلات مخطّطة واستدعت سفراءها.

وتصادمت المملكة أيضاً مع أوروبا، التي تشكّل أكبر شريك تجاري مستثمر ومانح للمغرب، على مدى العقد المنصرم بشكل متكرّر، بما في ذلك مع إسبانيا وألمانيا حيال الصحراء الغربية هذه السنة. وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية الوطيدة والعلاقة الوثيقة للغاية مع فرنسا، سعى صانعو القرارات المغربيّون إلى الحدّ من النفوذ الأوروبي على المملكة عبر الاستفادة من الدور الذي تؤدّيه البلاد في السيطرة على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وفي مساعدة الدول الأوروبية على غرار فرنسا وإسبانيا في إحباط الهجمات الإرهابية على أراضيها.

تطبيع العلاقات مع إسرائيل: عصفوران بحجر واحد

علاوة على الأهمّية الرمزية التي تتّسم بها الاتفاقية التاريخية التي أبرمها المغرب مع إسرائيل والولايات المتّحدة، لهذه الصفقة تداعيات أمنية ومالية ودبلوماسية كبيرة. فمقابل التطبيع الجزئي، لا الكلّي، اعترفت الولايات المتّحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية وتعهّدت باستثمارات بقيمة ثلاثة مليارات دولار في القطاع الخاص ووافقت على صفقة بيع أسلحة بقيمة مليار دولار (بانتظار موافقة الكونغرس). ويمكن أن يؤمّن التطبيع الجزئي منافع كبيرة من إسرائيل من ناحية التجارة والاستثمار والتعاون في قطاعات مهمّة على غرار السياحة والتكنولوجيا.

وعلى الرغم من بعض الامتعاض المحلّي والانتقاد الإقليمي، سيبرز على الأرجح المزيد من التقارب بين المغرب وإسرائيل. وبالفعل فقد أعرب وزير الخارجة المغربي عن نيّة المملكة بالوصول بالعلاقة إلى أقصى حدّ ممكن لها. وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي مؤخّراً أيضاً أنّه سيزور الرباط في أواسط شهر أغسطس. وقد وقّعت الدولتان معاهدة دفاع سيبراني في يوليو 2021 وستزيدان على الأرجح من التعاون الأمني والاقتصادي في المستقبل. وطالما لم تنقض إدارة بايدن الاعتراف الذي أعلنته الإدارة الأمريكية السابقة، لا سبب حتّى الآن يدفع الرباط للانسحاب من الاتفاقية. بيد أنّه من غير المرجّح أن يصل المغرب إلى حدّ فتح سفارة في إسرائيل بسبب الرأيَين المحلّي والإقليمي.

الاستثمار في أفريقيا

منذ العام 2016، رسّخ المغرب حضوره الاقتصادي والدبلوماسي في أفريقيا جنوب الصحراء. فزادت الشركات المغربية من تعاونها مع نظيراتها في جنوب الصحراء في عدّة قطاعات، أبرزها في الاتّصالات والتأمين والعمل المصرفي والتصنيع. في الواقع، على مدى فترة عشرة أعوام، (بين العامَين 2008 و2018)، ارتفع التبادل التجاري المغربي الأفريقي بنسبة 68 في المئة، وفي العام 2018، رُصدت نسبة 85 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة المغربية لدول جنوب الصحراء. وفي العام 2017، عادت المملكة للانضمام إلى الاتّحاد الأفريقي بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انسحابها منها احتجاجاً على انضمام الصحراء الغربية إليه كدولة عضو مستقلّة.

ولن يعزّز انخراط المغرب في المنطقة اقتصاده وينوّع قاعدة تحالفاته فحسب، بل سيجعل منه أيضاً بوّابة الغرب والصين إلى أفريقيا، مما يفسح في المجال أمام تعاون وصفقات تجارية ثلاثية. في الواقع، يرتبط التعاون الاقتصادي مع أفريقيا جنوب الصحراء بالخطوات التي قامت بها الرباط لإنشاء صلات أوثق بالصين على مدى السنوات الخمسة الماضية. ففي السنة نفسها التي انضمّ فيها المغرب إلى الاتّحاد الأفريقي من جديد، فتح بنك الصين فرعه الأول في المغرب، فيما فتح بنك أفريقيا المغربي فرعاً له في شنغهاي. ويهدف صانعو القرارات المغربيون إلى تحويل الدار البيضاء إلى مركز مالي مهم في القارة الأفريقية، وتسعى المؤسّسات المالية الصينية إلى إدارة نشاطاتها في الأسواق الأفريقية انطلاقاً من تلك المدينة.

وبسبب قرْب المغرب من أوروبا، تسعى الصين أيضاً إلى إنشاء مصانع في المملكة لتصنيع البضائع التي يمكن تصديرها إلى أوروبا. علاوة على ذلك، تنخرط شركات البناء الصينية في مشروع طنجة المتوسط، وهو ميناء صناعي بقيمة عشرة مليارات دولار يجري تشييده في شمال المغرب وهو الميناء الأكبر في أفريقيا. ويعود جزء كبير من سبب نجاح علاقة المغرب بالصين إلى أنّها لم تسعَ للتدخّل في شؤون المملكة الداخلية، على عكس أوروبا.

جهود الوساطة في ليبيا

وفي خطوة أخرى لتعزيز مكانة المملكة الدولية، يركّز صانعو القرارات المغربيون على جعل المملكة مزوّد استقرار ووسيطاً في المنطقة، ولا سيّما في ليبيا. فقد تمّ توقيع اتفاقية الصخيرات التي أفضت إلى الاعتراف الدولي بحكومة الوفاق الوطني على أنّها السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا في المغرب في العام 2015. وفي إشارة إلى العمليات الدولية على ما يبدو، على غرار مؤتمر برلين، يحثّ صانعو القرارات المغربيون باستمرار على الحوار بين الفصائل الليبية، واصفين موقفهم إزاء ليبيا بالحياد النشط الذي يسعى إلى تسهيل التواصل بين الأفرقاء الليبيين كافّة.

ومؤخّراً، التقى رئيس المجلس الأعلى الليبي للدولة خالد المشري ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح في المغرب الشهر الماضي لمناقشة مسألة المناصب المؤسّساتية المهمّة في ليبيا. واستضافت الرباط ما مجموعه أربعة لقاءات بين الفصائل المتخاصمة لمناقشة الخطوات التالية في العملية السياسية الليبية العام الماضي، فجمعت مندوبين عن البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، فضلاً عن نوّاب من فرعَي طرابلس وطبرق من البرلمان المقسّم. وفي خلال الصيف، تضاعفت اللقاءات بين المسؤولين الليبيين والمغربيين، وقد كشف الكثير منهم عن أنّهم يعملون على تعاون أمني محسَّن وشراكة عسكرية محتملة ومنتديات اقتصادية ثنائية وتعاون في مجال الطاقة المتجّددة.

الاستنتاجات والتطلّعات: سياسة أكثر ثقة؟

لعلّ الدعم الأمريكي الأخير للمغرب قد زاد ثقة صانعي القرارات في البلاد للتشدّد في مواقفهم حيال المسائل الإقليمية ومواجهة الشركاء الأساسيين. بيد أنّ مقاربة المملكة لم تكن غير متوقّعة. فمثلما فعلت الدولة على مدى العقد الماضي، هي تعتمد سياسة خارجية استراتيجية ومستقلّة بهدف ترسيخ مكانتها دولياً وإقليمياً من خلال شراكات جديدة وأيضاً من خلال تعاون أمني ودبلوماسي مع الشركاء التقليديين. والمهمّ في الموضوع أنّ قاعدة الدعم الموسّعة والأدوات الأمنية لدى المغرب غيّرت علاقتها مع شركائها الأساسيين وجعلت صانعي القرارات في المملكة يضعون نصب عينيهم دوراً أقوى إقليمياً ودولياً.

وفي المستقبل، من المرجّح أن تستمرّ الدولة في المحافظة على حيادها في عدّة ملفّات في السياسة الخارجية، من بينها الأزمات الإقليمية. ومع ازدياد ثقة صانعي القرارات بفضل النجاحات الدبلوماسية الأخيرة، يبدو أنّه من المستبعد أكثر أن يخضعوا للضغوط الدولية ومن المرجّح أكثر أن يتشدّدوا بمواقفهم، ولا سيّما إزاء أوروبا. فمع أنّه من المتوقّع أن تعمل الدولة على المحافظة على علاقاتها المتينة مع الاتّحاد الأوروبي، سوف تكون صارمة أكثر في الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها.

وسيتابع على الأرجح صانعو القرارات المغربيون بانتهاج دور منخرط في عملية السلام الليبية من أجل تسيير مصالحهم الاقتصادية والدبلوماسية الخاصة. وستسمح الزيادة في وتيرة اللقاءات بوساطة مغربية للمسؤولين الليبيين ومعهم للمملكة بتأسيس صلات اقتصادية مع ليبيا، ولا سيما مع ناحيتَي الطاقة والتجارة. وبشكل أهمّ، سيسهّل هذا الدور على الرباط أن تضبط نفوذ الجزائر المنافسة لها في شمال أفريقيا.

وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع، سوف تسعى الدولة جاهدة لتُصوِّر نفسها على أنّها ميسّر محايد لكسب الدعم الدولي والإقليمي ولفتح الباب أمام التعاون الدبلوماسي والاقتصادي المستقبلي. كذلك، سوف تعمّق الرباط صلاتها ذات المنفعة المتبادلة مع أفريقيا جنوب الصحراء، فتجعل نفسها شريكاً أكثر جاذبية للصين وأوروبا. أما من الناحية الأمنية، فسوف تعزّز انخراطها في منطقة الساحل حيث ستصدّر الأمن وتحاول احتواء النشاط الإرهابي. وفي ما يخصّ التطبيع، من المستبعد أن تتراجع الدولة عن الاتفاقية مع إسرائيل وسوف تقدّم نفسها كمسهّل حوارات محتمل بين إسرائيل والفلسطينيين

Author